14/4
يرتفع صوت إذاعة القرآن ببرنامج فتوى يُجيب فيه فضيلة الشيخ عبدالله المطلق عن سؤال أحدهم عن شعوره بالجزع وقلة الصبر إثر وفاة والدته .. يطبطب الشيخ بكلمات المواساة والعزاء ويذكره بالصبر والدعاء ثم ينقطع صوت الإذاعة أمام صوت ذهني الذي يحاول اقناعي بمراجعة التاريخ, هل أتممنا العام؟
لا أحاول ربط الأحداث بتواريخها, لاسيما الحزين منها حتى لا يُجدد الحزن نفسه مرة بعد أخرى .. لكن بلا جدوى! يفرض هذا التاريخ وجوده ويميز نفسه حتى لا يتمكن أحدنا من نسيانه, يتأكد أن مرور الأيام لن يُمحي هذه الأربعة المتكررة التي تقف أمام الحزن والذاكرة.
عام يمر على وفاة جدتي, لا أقول مرت الأيام سريعًا لكنها مرت ثقيلة, الأحداث التي كانت للمرة الأولى كانت الأشد ثُقلًا! عيد هذا العام كان أشبه بعزاء يكتم الجميع الحزن في نفسه حتى لا تتغبش صورة العيد السعيد لكن عبثًا, بقيت غرفتها ظلمة وبابها مغلق فلا فقرة السلام الحنون جاءت في البداية ولا فقرة العيديات جاءت ختامًا .. يُجبرنا الله بمناسبات سعيدة, مولود جديد, عروسُ جديدة, خطوبة, زواج وأنا اتخيل كل مرة ردة فعلها, أتخيلها تتصل بي وتخبرني بتعابير الفرح إذا ماكنت أهلًا لكتم السر حتى تخبرني إياه, تتصل بي أخرى ويزف لي خالي الذي يجلس جوارها خبر الولادة .. وتتصل وتتصل وتمر سنة باردة بلا اتصالات بلا تهاني صوتية, رسائل واتس اب وكتابات لا تحمل فرحتها ولا صوتها.
لا أعرف كيف برحمة الله تخطيت هذا العام, أفكر بوفاتها فأشعر أنها ربما قبل اسبوع؟ اسبوعان؟ كيف لهذه الفاجعة أن تجدد داخلي رغم كل هذه الفترة, ثم أفكر في فقدها فأشعر أنها قبل عامين وثلاثة وأربعة لايمكن أن يكون عام واحد! مازلت أحكي عن جدتي في كل مجلس يطرأ فيها مايصلني بها بحادثة أو حديث لكن (رحمها الله) ثقيلة حتى الآن, أقول جدتي رحمها الله -لأنه يجب أن أقول- ثم يأتي الرد آمين, فينقبض قلبي, لماذا آمين؟ هل ماتت؟
ثم ما يؤلمني حقًا أن هذه المشاعر حبيسة نفسي, عام كامل وأنا أحمل ثقل هذا الفقد في نفسي لا أستطيع مشاركته .. حُزن نتقاسمه جميعنا دون أن يبوح به أحد لآخر, الجميع يحاول مواساة الجميع في اختلاق أجواء سعيدة واجتماعات طبيعية واستكمال الحياة؛ تحكي لي خالتي فجأة عن اجتماعهم الأخير فأجدني اكرر دعوات الرحمة والمغفرة بشكل يكشف عن رغبتي بإنهاء هذا الحديث, فأكتشف أننا لم نتجازو بعد! في حدث ولادة سعيد أجدني أغص برغبتي في أن أسألهم جميعًا هل شعرتم مثلي أن هذه المناسبة سعيدة حزينة؟ في خبر خطوبة ابنة خالتي حبيبة الجميع, وحيث ندعو لها بالتوفيق والسعادة اجدني اتساءل لاحقًا هل ربما بكت لأن يوم مثل هذا كان سيكون كاملًا لولا أن سبق الموت؟ أجد في نفسي رغبة ملحة في أن أشارك أحدنا هذه المشاعر لكن شعور “عدم الرغبة في تجديد حزن الآخرين” أقوى.
أُخبر طفلي الصغير بلغة بسيطة أن جدتنا الحبيبة ذهبت لربي بعد أن ألح بالسؤال عنها في كل مرة كان لا يجدها بيننا وحتى لا يُثير السؤال مرة بعد أخرى آثرت اخباره, لكن ياحبيبتي لو تعرفين أن الطفل شبيه أمه ويعز عليه هذا الفقد, يسأل كل فترة عن حالها هناك, هل ستعود ربما؟ يعيد على مسامعي أنه اشتاق لرؤيتها في وسط اليوم وأوله آخره, في أنه يود الذهاب للسماء كل مرة ينظر فيها إلى السماء للبحث عنها .. وفي الطريق وأثناء تناول الطعام وفجأة يستمر في اخباري ووالده أن ماما ثنوى ماتت الله يرحمها ماما ثنوى راحت عند ربي؛ ومؤخرًا -قبل يومين- يتحدث مع إحدى الصغيرات يخبرها “تدرين ماما ثنوى وين؟ عند ربي, ربي جاء واخذها عنده عشان هي كانت تصلي وتصلي وتصلي وخلاص ماتت” أستمع للحوار ومفاجأة الصغيرة بهذا الحديث اللامفهوم وأنا أدفع الدموع لئلا تخرج الآن, أفرح كثيرًا أن عام لم يطوي ذكرى جدتي الحبيبة من ذهن صغيري وأتمنى أن يكبر وتكبر معه ذكرياتها أن لا تحول الأعوام بينهم وأن تظل ماما ثنوى ذائمًا حسنة السيرة وحاضرة الصورة في ذهنة.
مرة أخرى, أنا لا أحب ربط الأحداث بالتاريخ لكن هذا التاريخ يفرض نفسه وهذه الليلة ساكنة أكثر مما يجب.