عامٌ جديد!

يشارف العام الهجري على الانتهاء، لكنه ينتهي هذه المرة تزامنًا مع انتهاء عام عمُرّي آخر؛ لنبدأ أنا والسنة الهجرية ميلاد جديد.

ولهذا الاتفاق علّة خفية، يبدو اعلان بداية جديدة وتأكيد عليها، وكأن الستائر تسدل من كل اتجاه للمغادرة جبرًا إلى مشهد آخر، أقف وانفض عن نفسي خمسة وعشرون سنة، يهتف الآخرون احتفالًا بعام جديد -واحتفل لوحدي- معهم.

لم يكن من السهل أبدًا اجتياز العام الأخير من عمري ومن اوراق التقويم على حد سواء، كان بلوغ الخامسة والعشرون يكلف الكثير وكانت بداية عام هجري جديد بعيدة جدًا، كان عامًا عصيٌ عن التصنيف، لم تخطئ الدهشة اصابة كل الأماكن والعلاقات والمواقف التي مرت خلال هذا العام، ولم تخطئني أنا أيضًا.

كنت أعتقد أن السنوات الماضية كفيلة بأن تكون مخاضًا ينتهي ببشرى ولادة وأن خمسة وعشرين سنة تصنع أجيالًا؛ لا نصف إنسان, لكنه اعتقادٌ يتبدل مجددًا كل عام؛ ومجددًا هناك رغبة مُلحّة بأن أرى نفسي في صورتها الكاملة, لكنها تظل خيال صورة.

أفكر في ما حدث ويأخذني العجب أنّى لكل هذه الأحداث أن تأتي في عام واحد, تتزاحم وتتلاحم حتى تملأ كل الأشهر, كل الأيام بالتفاصيل, بالذكريات؛ في عام واحد كان عليّ أن أصبح أمًا في الوقت الذي يتوجب علي فيه الانفصال عن والدتي وعيش التجربة دون أن يشارك جيلٌ ثالثٌ في الصورة, كان عليّ العيش بالتخفف لا رغبة في ذلك ولكن لأن الإقامة غالبًا في مكان واحد لا تزيد عن شهرين, كان عليّ التعايش مع حالة السفر -وأقصد الفعل لحالة السفر- إذ تكاد تتحول السيارة إلى مقر إقامة ويغشى الليل النهار يطلبه حثيثًا كما نطلب الوصول, يتكرر ذلك مرات أخرى وتتحول حالة السفر من مضارع إلى مضارع مستمر للأبد, كان عليّ مصافحة كل من أصادفهم, ومصادفة أحد ما هو احتمال ضعيف جدًا, لذا وبدلًا من المصافحة كان يتوجب عليّ معانقتهم للاستئناس بهذه العلاقة “العابرة العميقة” أطول وقت ممكن, كان عليّ الوقوف في مصلى العيد لا اجاور أحدًا من عائلتي, وفي المساء أُجيب بنفسي عن التساؤل الذي طالما تكرر كل عيد “من يذهب إلى الاحتفالات في الأماكن العامة ويفوّت على نفسه الاجتماعات الأسرية؟”, كان عليّ تأجيل كل القرارات الممكنة والمستحيلة المستقبلية والحالية لأن الحال “مؤقت” وهذا المؤقت يأخذ شكل الدائم في كل شيء إلا الاستدامة.

صنعني هذا العام مرة أخرى، شكلنّي من جديد؛ وكل المسلمات التي أعرفها عن نفسي أصبحت محل شك, ولا أعلم أعزو ذلك إلى الظروف أو العمر, لكنّي بلا شك شُكلت مرة أخرى من رأسي حتى أخمص قدميّ؛ وإذا كنت سابقًا أعتقد أن الإنسان ينضج خلال مرحلتين: الجامعة والزواج, فأنا أجزم الآن أنه ينضج خلال ثلاث مراحل: الجامعة, الزواج وأثناء الظروف الصعبة.

الآن أفكر, كيف أصبحت بعد كل ذلك؟ كيف امتهنت أشياء كثيرة لم تكن منّي أبدًا, كيف تجزأت نفسي فما كادت تُبقى لي شيئًا, كيف تحولت اهتماماتي لمسارات مغايرة ربما, كيف أمكن أن أًصقل لدرجة الانزلاق المربكة هذه, كيف تبدّلت قائمة دعواتي التي أرددها دائمّا عند السفر, وفي الصوم عند الإفطار وأثناء القنوت. ثم أبتسم ياللإنسان! انه يفوق قدرة الحرباء على التموضع.

أضف تعليق